موج من الكتابةوالبحر أبكمتونس - شربل داغر
لوحة غابة لغوية دون حرف واحد. إنّه يقطع مع تاريخ عريق من الإبلاغ والتوصيل عربياً، ونستكشف معه جمال الحرف العربي، لوحده، دون معناه المقدس أو القيّم.
موج من الكتابة. كتابة من الموج.
بحر من حبر. حبر من بحر.
تتكسر الموجة، تنساب، تتلوى، تتهادى مثل ياء تتخاصر مع النون أو الباء؛ مثل ميم تنعقد، تنغلق بعد أن استطالت كالألف؛ مثل دال تتزوى؛ مثل وشوشة ليلية؛ مثل غبش الصباح؛ مثل صمت يبلّغ دلالاته عفواً، أو يعبر، يكتفي بالعبور، مثل برق، مثل إشارة. هل كنت معي؟ هل رأيت معي؟ ماذا يرى نجا المهداوي حين ينظر إلى خليج قرطاج القريب؟ ماذا يفعل بالنسائم البحرية بعد أن تتسلل إلى محترفه ليلاً؟
هل رأى من رأى؟
البحر لغة، موجته كتابة، ورذاذه المتناثر حروف متفلتة، واللغة، أيضا، مثل البحر، دهرية وراهنة، ثابتة ومتبدلة. نسبح في الماء نفسها، ونكتب بالحروف ذاتها. ألا يقول الشاعر الفرنسي أدوار مونيك عن رسوم المهداوي :
« هاهو المد الصوتي
وجذور النشيد
ترفعها فوق صارية السفينة
للسفر في الليل؟ »
« voici le trait vocal
les racines d'un chant
que tu hisses au grand mât
pour naviguer de nuit »
نجا المهداوي يعوم في ماء اللغة مثل سمكة في البحر. أيّه ألفة قديمة! يتجاسدان، ويتوازيان، كما في المرآة، كما فوق صفحة الماء الصافية، يتعايشان ويتحاوران مثلما البحر واللغة عند عربي فوق ضفاف المتوسّط.
هو هو، وهو غيره. قديم ومتجدد. متجذر ومتحرر. مثلما يبدع المبدع اللغة حين يكتبها من جديد. مثلما يخرج السابح من البحر بأصداف مبتكرة دائما. يتماثلان ويفترقان. يتحاوران ويبتعدان : « أعود في فني إلى التراث بالطبع، ولكن لأخرج منه، وإلا فإنّني سأموت فيه ».
« أكتب دون أن أكتب، صفحات تلو صفحات، كما لو أنّني أعي الحالة التي أنطلق فيها، التي أندفع فيها، كما في لعبة مجنونة، أكون الشاهد فيها على حركاتي، حيث يمكنني مراقبة نفسي بنفسي والضياع في آن معا ». أليست هذه يقظة المنتشي؟ هل يعرف يعرف الشاعر تماما ما يكتبه حين يكتبه؟ إلاّ أنّ نجا المهداوي لا ينتظر «الحالة»، مثلما ننتظر الحب من أوّل نظرة، مثلما ننتظر «الالهام» عبثاً، بل يبادرها، يواقعها، ينادشها، ينازلها، لعله يقع عليها في المكاشفة. اللعبة مجنونة، نجا المهداوي يحاولها يومياً، دون ملل، دون تردد، مثل الصياد. من يدري؟
« قد أعمل في اليوم الواحد أكثر من ١٣ ساعة. أنا أعمل بصورة مستمرة، مكدة ومجدة. أنا أبحث : قد أصل إلى نقطة خاطئة، أو إلى كشف موفّق. قد أتقدّم أو أتراجع. صورة عملي الغني لا أعرفها مسبقا، بل أتوصل إليها ». نجا المهداوي باحث فني، بانكباب ومثابرة لا يعرفها غير الحرفيين. إنّه فنان اختياري لا صاحب رؤيا. ولا يتبين ما يريد قوله إلا في تدافعات التجربة، في تجدد الخبرة. كل تجربة قديمة وجديدة في آن معا، أولى وأخيرة، ممكنة ونهائية. دائما الورقة البيضاء، وهذا الحبر. كأني به يجدد يوميا ما يقوم به الحرفيون اليابانيون حين يكتفون بنقطة حبر وحيدة أمام ورقة بيضاء لرسم ما يريدونه: ماذا سيكتب، ماذا سيرسم بالأحرى،فيما لو كانت نقطة الحبر هي النقطة الوحيدة، النقطة الأخيرة في العالم؟ وماذا ستقول، ماذا ستكتب، فيما لو تبقى لك دقيقة وحيدة قبل الموت؟
تتعدد الصفحات، تتنوع نقاط الحبر، لكن القصد لا يتغير: استكشاف طاقات الحرف(العربي) التشكيلية. نجا المهداوي لم يبق سطحا تصويريا واحدا إلا ووقع عليه تشكيلاته الحروفية. توقف طويلا أمام الرق، أمام الرق المنتج في ألمانيا، توقف أمام أنواعه الثلاث المعروفة في اليابان، توقف أمام الحديد بصنوفه المختلفة، أمام الورق بمنتجاته المختلفة، أمام القماش، حتى إن عظم الأبل لم يسلم من تخطيطاته الحبرية، حتى ان جسد ابنه توشّم بالحرف وايقاعاته...
يختبر الحرف، إذن، يعدد حضوره، ينتزعه من السياق المقدّس، إلى السياق الوثني (إذا جاز القول). الحرف لم يعد مقدّسا، بل بات علامة، معتبرة طبعا، ولكن لذاتها، لا لمعنى «خارجي» عنها، مضاف إليها.
ولكن هل نرى فعلا ما نرى؟
فن نجا المهداوي خدعة بصرية. خدعة بصرية جميلة. لا يجوز، اذن، أن نكتفي بأثر النظرة الأولى إلى لوحاته ومحفوراته، لأنّها خادعة، ومضللة، للعربي كما للأجنبي.
ما أن ينظر العربي إلى أعمال المهداوي يتملكها مباشرة، يشعر بصلة معها، يتعرف فيها على مراجع ثقافية - جمالية تربطه بها، إلا أنّه « تملك آني، ليس إلا »، يؤكد المهداوي، "ذلك أنّ المتلقي العربي لا يلبث أن يرتد، أن يتراجع عن انطباعه الأول، بعد أن يمكن النظر فيما يراه: اللوحة مختلفة عن تلك التي رآها عندما خطا خطوته الأولى في صالة العرض". ماذا جرى؟ ما هي حيلة هذه الخذعة؟ لم يتأخر المهداوي، ذات مرة، عن تسجيل انطباعات زائري معرضه، العرب مثل الأجانب، ولاحظ وجود ثلاث محطات في ردة الفعل، أو في كيفية التلقي. " الأجنبي، بعكس العربي، لا يعرف التملك الآني لما يراه، لا بل ينظر أحيانا بريبة إلى الأعمال المعروضة، ثم لا يلبث أن يقترب منها وتنفرج أساريره". أما المحطة الثالثة فهي اللحظة الجمالية بحق، عندما يتفاعل المتلقي، بعد زوال آثار الخدعة، مع العمل، أو عندما يرفضه فعلا.
أهذا ما أراد الشاعر أدوار مونيك قوله حين كتب :
« يتساءل الساحر
في لحظة نزع فيها القناع عن وجهه.
أيّة رقضة هذه التي
تحرر مفاصل اليد ! » ؟
« un instant démasqué»
le sorcier s'interroge
quelle est donc cette danse
qui délie ses poignets »
يحق للناظر إلى أعمال المهداوي أن يتساءل: هل يرسم هذا الفنان فعلا؟ يحق له أيضا أن يبحث عن الحدود الفاصلة، بين الرسم والخط، بين العلامة والحرف. لا تحيلنا أعماله إلى أي شيء نعرفه، لا إلى الطبيعة، ولا ألى الإنسان. ولا إشارة واحدة تقريبا إلى هذه الأعمال، أو تسهل تلقينا لها. فنحن بكم أمام هذه الأبجدية الغربية، لكننا لسنا عميانا... والحمد لله.
إنّه لا يرسم أصلا بل يكتب. لا يكتب، بل يخط. لا يخط جملة أو عبارة، بل حرفا. لا يخط الحرف، بل شبهه. لا شيء يشبهه، يحيل فقط إلى الحرف العربي ويبتعد عنه. فنه يشير دون أن يوضح؛ يومئ دون أن يعرض؛ يتهجأ دون أن ينطق قولا بينا.
نجا المهداوي أوقف اللغة العربية عن الإبلاغ وجعل الحرف «أبكم»، كما يحلو له أن يقول. لم يضع كاتما للصوت فوق الحروف، بل عاد إليها في مهد الطفولة، في طور التكوين، حين كانت عصيّة بعد الكلام، على نطق أصوات معينة. عاد إليها في مهد الشكل، قبل تشكل الأبجدية، شكلا وصوتا، حين لم تكن الألف " أول الحروف وأعظمها" (في قول للصوفي سهل التستري)، بل كانت استطالة خطية دون شكل وناجز.
عاد إلى مجزوء الحرف وكسور العبارة، فعرف ترددات الشكل وقابلياته العديدة: عرف أنّ الباء والتاء والثاء والنون متشابهة، مثل الجيم والحاء والخاء، مثل الدال والذال، مثل الراء والزاي، مثل السين والشين... إلى أن تجتمع في نهاية السلسلة الحروف غير المتشابهة، مثل اللام والميم والهاء... وعرف أيضا انّ نظامها الترتيبي يخضع لنظام شكلي أيضا، غرافيكي أساسا.
ولكن ألا تشبه الميم الألف فيما لو اقتطعنا الجزء الأعلى من هذا الحرف؟ ألا تشبه الجيم العين فيما لو اقتطعنا الجزئين العلويين لهذين الحرفين؟ أليست الأبجدية العربية عبارة عن خط مستقيم وعن قوس؟ ألا نجد في هاتين الوحدتين أساس الخط العربي في خطوطه ذات الزوايا الهندسية أو الدائرية المائلة والمنسابة، وأساس الزخرفة العربية مع الدائرة والمربع، وأساس المعمار العربي مع القوس والرمى؟
كأني به يصل إلى أول الشكل، إلى تلعثمه البكر وشحنته المولدة. كأنّي به يريد أن يتعرف على شكل الشكل، حين كان طاقة خلاقة. "الحرف عندي مادّة حيّة، أصوغ منها ما أشاء، كما أشاء"، يقول لنا ذلك، كما يتحدث النحات عن حجره المفضل، أو الخزاف عن التراب الصلصالي.
لا حرف، بل مجزوء الحرف: تتبين هنا طرفاً من حرف دون أن تعرف تماما إذا كان هذا الطرف يعود إلى الغين أو الخاء، وهنا تتبيّن طرفاً من حرف آخر، دون أن تتعرّف تماما إذا كان هذا الطرف يعود إلى الجزء الثاني من الشين أو إلى الثاء... سلسلة لا تنتهي من مجزوء الحرف العربي، بأقلامه العديدة.
ألا إنّ كسور هذا الحرف عربية خالصة. اللوحة تومئ إلى عربيتها، لا تعرضها مثل جيش مدجج الأبواق والنياشين. إنّ هذه النتف الحروفية تحيل إلى لغة بعينها، رغم أنّنا لا نستطيع أن نعثر فيها على أيّه جملة أو عبارة أو كلمة أو حرف. كل لوحة متأهبة لإنّ تصير عربية. كأنها على أهبة الشوق والحنين. مثل الاندفاعة الأولى. اللوحة علامة، إشارة، دعوة، غمزة عين، وليست طنينا أيديولوجيا يصم العيون، أو زركشة فولكلورية تبكم الآذان.
حروف تتناسل من بعضها البعض، فوق خطوط منتظمة ومستوية، وهي تحتفظ بوجهة القراءة في العربية من اليمين إلى الشمال، وذلك فوق مساحات، لا تفيد معنى واحدا، ولا حرفا واحدا.
أهو حرف أم علامة ؟ لا هو حرف لأنّه لم يكتمل، ولا هو علامة لأنه لا ينبينا أصله أو ما يمكن أن يصير عليه. خطه مجدد ومنمق، يستقيه من الأقلام المعروفة، الأقلام الهندسية أو المائلة من الكوفي حتى النسخي، كأنه خطاط تقليدي. يستخدم أبجديّته المستنبطة من العربية في أشرطة طويلة،على مثل ما هي مكتوبة في العمارة الدينية العربية - الإسلامية، ولكن دون أن تقدم أية دلالة مقروءة، دينية أو خلافها.
يستدعي الحرف العربي لقيمته الشكلية البحتة، ويسعى من خلال التكوينات التي يبتكرها أن يحاكي الشكل الايقاعي للنصوص المكتوبة أو لتحف الخط العربي. الإيقاع: هذا ما احتفظ به المهداوي من اللغة كشكل، وكمعنى أيضا، مثلما يعطي موج البحر للبحر مبناه ومعناه، صوته ورمزه.
نجا المهداوي يقطع مع المعنى، مع الإبلاغ، ومع تاريخ عريق من التوصيل كان يؤدّي فيه الحرف رسالة ومعنى بينا، منذ أقدم العصور حتى أيامنا هذه. فالحضارات الرافدينية والفرعونية عرفت الكتابة في التماثيل والصور كدلالات تأويلية، بأشكالها المسمارية والفرعونية. الخط العربي، بوصفه الفن المعتبر في الحضارة العربية- الإسلامية، وجد في هذه الكتابات البعيدة جذورا غير مباشرة ولكن أكيدة، وبلّغ دوما معانٍ سامية أو قيمة.
المعنى، دوما المعنى، هذا ما تقوم به أيضا الحروفية العربية الحديثة: ايتيل عدنان، ضياء العزاوي ورشيد القريشي يعودون إلى القصيدة العربية الحديثة، إلى نصوصها الأكثر إبلاغا (محمود درويش، بدر شاكر السياب، نزار قباني...). كذلك يفعل شاكر حسن آل سعيد حين يكتفي بايراد كلمة "فليسقط" في اللوحة، التي يكتمل معناها حين نضيف إليها كلمة " الاستعمار"، أو أية كلمة أخرى، مرذولة ومستقبحة في قاموس معانينا الراهنة.
نجا المهداوي يقطع مع طريقة عريقة في الأداء، في التوصيل، حين يجرد الحرف من أية وظيفة، غير الوظيفة التشكيلية، وحدها دون غيرها. يقطع بطريقة قطعية، تجعل بعض لوحاته جافة، عقلانية، مهندسة جدا، كأنّها تمارين واختبارات ذهنية وعملية، دون أي حس وجداني.
« علينا أن نكتشف فعلا، لا بالقول فقط، طاقات الحرف العربي التشكيلية، علينا أن نفتح له مسالك جديدة للتعبير، وإلاّ فإننا سنكون شهود موت بطئ. لغتنا تصلح بتكوينها الشكلي لمثل هذه الاختيارات، بعكس غيرها من اللغات المتحدرة من اللاتينية مثلا ». لوحته لغة، دون حرف واحد. تخطيطاته الحروفية بكماء لكنها تنتظم وفق خط القراءة. وهو بذلك يتخذ مكانا لوحدة في مسار التجربة الحروفية. مكان على حدة، يقع بين تجربتي سعيد أ . عقل وحسين ماضي، الفنانين اللبنانيين، في الحروفية، أي بين العفوية التلقائية عند الأول، والاختيار الذهني لتوليد تشكيلات جديدة من الحرف العربي عند الثاني.
له صلة قربى مع الفنان التونسي نجيب بلخوجة في التجريد الهندسي انطلاقا من الحرف. وهما معا يرسمان وجهة جديدة للرسم التونسي، تبعده عن منزلقيه: الفن الفلوكلوري والفن الساذج، وهما، بصورة ما، « تركة » الغرب في تونس.