2022 - نجا المهداوي وسفر الحرف العربي إلى عوالم المجهول واللانهائي

حورية الخمليشي

حورية الخمليشي ،"تواشجات الشعري والفني في الشعر العربي الحديث (الرباط: دار الأمان ، الجزائر: منشورات الاختلاف ، بيروت: منشورات ضفاف ، 2022) ، صص. 241-234.


 

حورية الخمليشي

     المطّلع على أعمال الفنان التشكيلي التونسي نجا المهداوي يُدرك مدى استغوار هذا الفنان لفنّية الحرف العربي بعد أن حرّره من أيّ معنى دلالي لغوي، ومن أيّ مضمون قِرائي. فدلالات وإشارات الحروف عنده مستقاة من روحه العامرة بالصّفاء والضّياء. إن الحرف عند المهداوي كائن حيّ، وفيه تتجلّى قوته كفنّان، وبه يصنع لونه وتفرّده ليسافر به إلى عوالم المجهول واللانهائي.
     يمتلك المهداوي رؤية فنّية وفلسفيّة للحرف العربي، بعد أن تمرّد على النّسق التّقليدي. فبدت حروفه بتركيب فني جديد متفرِّد لم يعهده الفن العربي. يقول نجا المهداوي: "ما يهمّني هو رسم وإنجاز عمل بصري انطلاقاً من أجزاءٍ لمادّة ما (شيفرة لفظية) بعد أن أقطع الطريق على كل البنية اللفظية المسبقة والمحافظة فقط على الشكل بصيغته الجمالية. هذا الواجب تجاه الاستقلالية يتيح لي إنتاج توليفات وتركيبات فنّية جمالية يحض فيها غياب القضايا النثرية على التجربة والمشاهدة بدل الإمعان والانشغال في القراءة."[1] هكذا يرسم المهداوي داخل الخيال والتأمّل، ليتحوّل الحرف من مجاله اللغوي إلى مجال تشكيلي مُنفتِح على سحر الشرق والغرب معاً في تأليفٍ تشكيلي حُرّ مستقل، عابر للأزمنة والأمكنة.
     المهداوي سلطان الحرف الذي أُغرِم به وهو القائل "الحرف سلطاني"، فكتب عنه بصرياً ما كتبه ابن عربي نصّياً عن عوالم الحروف وأسرارها. لكن المهداوي يتنصّل من كل قواعد اللغة والدّلالة، فيكتسب الحرف عنده روحانيّة فنّية وقدسيّة إبداعيّة.
     حروف المهداوي تستمدُّ جماليّتها من عيون الشعر والنثر وقدسيّتها من التجربة الصوفيّة في عشق الجمال خارج نطاق الجسد، لتأخذ أعماله مكانتها العاليّة في الفن التشكيلي العربي وغير العربي.
     سألته مرّة، ما الذي يراه المهداوي ولا يراه الناس؟ فقال: "الغيب وازدواج الأرواح". صحيحٌ أنه لا حدود للفن في استكشاف عوالم الغيب. فالخيال الخلاّق ينير الطريق للبحث عن الحقائق بتعبير المهداوي. أوليس في ازدواج الأرواح بحثٌ عن تعاشق الأرواح من خلال الخيال. ما جعل حروفه تنفتح على طاقة من الجمال المطلق وعلى شساعة الخيال الغنيّ بالرموز والإيحاءات التي تفتح أعماله الفنيّة على المعرفة والفلسفة الصوفيّة للبحث عن الحقيقة الكونيّة.
     هكذا يعمد المهداوي إلى استنطاق صمت الحروف روحياً وفنّياً في تجاوزٍ لحدود الأشياء لتشمل كلّ الوجود كإدراك خيالي للكشف الصوفي. فالكشف هو فنّ الاطلاع على الغيب لاكتشاف ما وراء الحجاب من المعاني الغيبيّة. وهو سرّ تنوُّع تجلّيات حروفه الجمالية وإيحاءاته الرّوحية. المهداوي يقرأ كثيراً قبل أن يرسم وخاصة كُتُب السهروردي، أو ابن عربي، أو الحلاّج، أو النفري وغيرهم من أقطاب التّصوّف الكبار.
     حروف المهداوي غنيّة برموز وإشارات وتوليدات مُنفتِحة على الفنّ الإنساني الكوني بأساليب جديدة غير معهودة. فهو يأخذ من إيقاعات الحرف نغمتها. هذه النغمة التي تحمل شخصيّته المستقلة في الفن العربي التشكيلي المعاصر. وتحمل، كما يرى عفيف بهنسي، رسالة إلغاء العدميّة في الحداثة التشكيليّة. يقول: "إنّ نجا المهداوي يدعو إلى الخروج من العدم الذي هوى إليه الفنّ في الغرب، وهو يُقيم دعوته معتمداً على إلهامه وإيمانه."[2] ويذكر عفيف بهنسي أنّ رونيه هويغ (René Huyghe) قال لنجا المهداوي، وهو ينظر إلى لوحة من أعماله: "أنتم العرب بيدكم مفتاح خروج الفن من العدم".[3] لذلك تبقى تجربة المهداوي من التّجارب المؤسِّسة للمرسوم الخطِّي العربي بإعادة صياغة وخلق الحرف العربي ليصنع منه كوناً قائماً بذاته، دون أن يكون أسيراً لأي مدرسة من المدارس الفنّية. فهو متأثّرٌ بموروثات الخطّ والفنّ الإسلامي، وقد وظّفها بأُفق مُغاير مُتجدّد ومُنفتح، وهو ما صنع شهرته وعالميّته. فأعماله تمتاز بشعرية محمولة بفلسفة فن جماليّة ذات معاني فنّيّة وإنسانيّة عظيمة.
نجا المهداوي خلاصة الشعر والرسم معاً
     أنجز نجا المهداوي العديد من الكتب الفنية بمصاحبة شعراء وروائيّين وأدباء، جمعت بين كلٍّ من شعرية الشعر وشعرية النثر. وهو ما أثرى ذاكرته البصريّة. فنقل لنا إحساسه عبر صورة مُفعمة بشعريّة الشكل، واللون، والإيقاع. وهو الذي يقول: "العمل الفني هو بمثابة قصيدة مرئية توّلّدت من خلال ترسّب تأثيرات غير متجانسة تكون قد حصلت عبر شبكة اللاوعي."[4] وهذه القولة تعكس التّجاور بين الشعر والفنّ عند المهداوي، أو بالأحرى الحوار بين الفرشاة والقلم، الذي يُكسب أعماله شعريّة متميِّزة، بحيث تظهر بسمة المهداوي وشاعرية لوحاته المُثقَلة بالرموز والدلالات. وهو أسلوب المهداوي في تخييل المعاني الإنسانية الطّافحة بالجمال. وقد أنجز أكثر من مائة أغلفة الكتب للعديد من الكتّاب والشعراء والمفكّرين العرب وغير العرب.
     ونشير إلى أن العنوان مستمدٌّ من قول نزار قباني الذي يقول فيه بأن: "نجا المهداوي ليس رسّاماً مبدعاً فقط ولكنه خلاصة الشعر والرسم معاً. لوحاته لا تشبه لوحات الآخرين، وآفاقه لا تشبه آفاق الآخرين... وألوانه أغنى من ألوان قوس قزح. باسم الشعر أحيّيه... وأحيي أصالته وتفرّده... إنه بكلمة واحدة (خرافة)."[5] إذا كان هذا ما قاله نزار منذ ما يقرب من ثلاثين سنة (لندن 1994)، فما الذي كان سيقوله نزار لو اطّلع في يومنا على عمق تجربة المهداوي وما قدّمه من أعمال فنّية باذخة؟ لكن لماذا يحيّي شاعر بحجم نزار قباني فنّاناً باسم الشعر والرسم معاً؟
     إن كلام نزار يعبّر عن عمق إحساس شاعر يرسم بالكلمات قصيدته، للتّنويه بفنّان يمتلك إحساس الشاعر ويرسم حروفه بالفرشاة. فقد اكتشف نزار ببصيرة الشاعر أنّ كلّ حرف عند المهداوي يحمل سؤالاً في المجهول من خلال شاعرية الحرف ورمزيّته، وشاعريّة اللّون وجاذبيّته، وتناسق الخطوط وهندستها التي تخاطب الوجدان والفكر عند المتلقّي. لذلك نجد حروفه في عناقٍ دائمٍ تعيش حالة حبٍّ وتشابكٍ وتآلف.
     يقول نجا المهداوي: "إن قراري في استخدام أجزاء من الحروف أو الرموز في أعمالي ينبع من رفضي العفوي لتجليات قيمة الحروف. في فن الخط تكتسب الحروف المكتوبة مكانة رمزية إلى أن تصبح حاملة لمعنى ما. ولكن حين تفقد الحروف تحديداتها الخارجية يصبح القارئ مضطراًّ للجوء إلى خياله ليتمكن من فك الرموز لبلوغ المعنى الكامن في الكلمة."[6] ما يعني أن المسافة واسعة بين ما توصّل إليه نجا المهداوي وما كانت عليه المحاولات الأولى لاستخدام الحرف العربي للتّعبير عن اللامرئي.
سيّد الحب
     وضع نجا المهداوي كتاباً فنّياً بعنوان "سيّد الحب (Le Maître d’amour) للكاتب والمستشرق رودريكو دو زياس (Rodrigo de Zayas). يجمع بين شعر ابن عربي ولوحات المهداوي. يرى رودريكو أن ابن عربي هو سيّد الحب. والحقيقة أنه لم يتناول أحدٌ موضوع الحب كما تناوله ابن عربي الذي جعل من الحب دينه. فنشر ثقافة الحبّ في كلّ العالم، وبذلك تجاوزت شهرته حدود العالم، وهو القائل: أدين بدين الحب أنّى توجَهتْ/ركائبه، فالحب ديني وإيماني. والجميل في هذا الكتاب الفنّي هو أنّ نجا المهداوي أعاد قراءة ابن عربي ببصره وبصيرته، بحروف الحب، وبمعاني الحب التي جاء بها سيّد الحب ابن عربي الذي استمدّ منه قدسيّة حروفه وبهاءها.
      يقع الكتاب في 136 صفحة في تجاور بين النثر والشعر والفن الكاليغرافي. اللّون الذهبي والأحمر لون الحب، واللّون الأسود الذي يمتصّ أشعّتهما التي تجعله أكثر بروزاً وأكثر قوّة ودفئاً. ويبقى اللون الذّهبي في الكتاب هو لون الإشعاع والنور، سواء أكان على الأسود أو على الأحمر وأحياناً على تدرّجات الأزرق، بالإضافة إلى رمزية اللون البنفسجي والبرقوقي والأخضر.  
      يقول موريس بلانشو: "يجعل كل كاتب من الكتابة قضيته." [7] ونجا المهداوي اتّخذ من الحرف العربي قضيّته. فحُبّه للحرف العربي نابعٌ من بيئته الصوفيّة. فالمهداوي سلالة أسرة صوفيّة عريقة. فهو حفيد الشيخ عبد العزيز المهداوي (جده الأعلى) الذي استضاف ابن عربي بتونس قبل هجرته إلى الشام بمدينة المرسى.
     أرسل لي نجا المهداوي مرّة صورة لشاطئ مدينته المَرسى وكتب: "هذا شاطئ مدينتي المرسى في الصباح. في هذا المكان التقى ابن عربي بعبد العزيز قبل رحلته إلى الشام". شاطئ المرسى الذي اعتاد أن يزوره المهداوي كل يوم، وهو يترقّب سفر حروف ابن عربي عبر الزمن إلى ثقافات وحضارات العالم. وكأنه يتأمّل كلّ صباح حروف ابن عربي تمشي على الماء وتمتطي الموج وتُبحِر إلى ما لا نهاية. فعُمْر الحروف أطول من سنواتنا.
     لعلَّ هذا هو السرّ الذي جعل حروف المهداوي تستضلُّ في بعض أعماله بأنوار حروف الرّمزية العرفانيّة وبمقاماته اللونيّة. فلكلّ لونٍ معراج عند ابن عربي، كما أن لكلّ معراجٍ لوناً مبنياً على الذّوق وهو السر الذي جعل المهداوي ينسج أحلامنا بنور حرفه الذي لا ينطفئ ويصل إلى أعماق النفس البشريّة بلُيونته التشكيلية التّجريدية، ونورانيته التي لا تغيب عنها الشمس. الحرف العربي عند المهداوي علامته المُميَّزة بمختلف تلويناته، وأشكاله الهندسيّة ذات القيمة الجماليّة المطلقة في الحضارات المختلفة من عربيّة إسلاميّة، وهنديّة، وإيرانيّة، وصينيّة، وأمريكيّة، وغيرها.
 
"الحاء" أوّل الحروف وأقربها إلى قلب المهداوي. إذ يحمل حرف الحاء تجلّيات لما لا يُقال. وبذلك يهبه وجوداً جديداً مختلفاً نابعاً من صفاء الرّوح وجماليّة اللّون لتمتدّ في الفضاء الكوني. فقد اختار المهداوي من "الحاء" لغة الحُلُم والحب. لذلك لم تَسقُطِ "الحاء" من أحلامه ولم تَخذِلْه. فبقيت صامدة مشرقة رغم ما يعانيه العالم من حروب وأزمات.
     إن الحرف العربي عند المهداوي يحضر بشكل فنّي خالص وفي غياب تام لأي دلالة كتابية أو قرائية من خلال تشكّلاته الهندسية التي تعكس النّور والجمال الذي يقتسمه المهداوي مع المتلقّي. فحروفه إشارات غير مقروءة، بين المرئي واللامرئي. وكثيراً ما تساءلتُ كيف يجري النور في حبر حروف المهداوي؟ أتذكّر أني تعلّمتُ في صغري أنّ "الحاء" أجمل الحروف التي يمكن أن نرسم بها الحمامة. فهي تُكتب بدون نقطة، لأن الحمامة أدركت أنها لا تحتاج إلى نقطة، فالتقطَتها لأنها شبيهة بالقمحة. أتخيّل أن ريشة المهداوي هي التي رسمت هذه الحاء التي تحمل طاقة رمزيّة مُحمّلَة بالنور، فهي دوماً تنشر النّور الذي يمكن أن نتغلّب به على بؤس العالَم.
     أما "ألِف" المهداوي فنُورانيّة تحمل جماليّة شعريّة عرفانيّة مستوحاة من حروف ابن عربي. فالله الأول في كلمة الأزل عند ابن عربي. فتبوّأت المكانة الأولى في حروف الأبجديّة. وإن كانت "الحاء" أول الحروف عند المهداوي، فذلك لأنه يرى بأنّ "الألف" أصلٌ لِكُلّ الأشياء، فهي صادرة من الواحد الأحد. إنها وحدة الله المطلَقة. يقول ابن عربي عن الألف[8]: ألِفَ الذاتِ تنزّهتَ فهل     لكَ في الأكوان عينٌ ومحلّ
     فمقام الألف مقام الجمع لاسم الذّات الإلهية.§ وهو ما يضاعف من قدرة الألف القرائيّة التّأويليّة.
     فبصيرة المهداوي وفنّيّته جعلت حروفه تجد ما يقابلها في نفس كلّ إنسان من خلال تقاطع الحروف، وتوازيها، ولُيونَتها، وانحناءاتها، وإيقاعاتها البصرية. لذلك يصل بالحرف إلى أقصى حالاته الجماليّة في تجدُّدٍ مستمر ولانهائي.
     وإذا كان الكشف هو فنّ الاطّلاع على الغيب، فحروف المهداوي تبحث عن النور الذي يوصلها إلى الغيب. وهو ما يحقّق له متعة روحيّة عاليّة. ولِمُصطلح "النّور" مفاهيم عديدة في الثّقافة العربيّة وغير العربيّة وخاصّة الثقافة الصّوفيّة. فالنّور عند المهداوي هو الكشف وهو الإشراق والتّجلِّي والضّياء... إلى جانب ما تختزن ذاكرته مِنْ معارِفَ بأسرار الجمال والفنّ التّشكيلي.
      أبدع المهداوي بمهارة حجم الحرف وشكله وترصد طبقات النّور التي تحملها في تناسق جميل بين اللّون والشّكل في القِصر، والمدّ، والشكل، والتّموضع في أشكال هندسيّة مربّعة أو دائريّة، أو نصف دائريّة، أو بيضويّة، أو نصف بيضويّة أو حلزونيّة في توازنٍ خلاّقٍ بين الحرف وتشكيلاته صاعداً أو هابطاً أو على السّطر، لتأخذ الحروفُ سُمكها ورقّتها وتقوُّساتها واستقاماتها وانحناءاتها.
متعة حتى الموت
     اهتم نجا المهداوي بالتراث العربي. فكان يجمع كلّ ترجمات أشعار "ألف ليلة وليلة". وكان جمال الدين بن الشيخ يدرك عشقه لألف ليلة وليلة. فأمدّه بترجمة القصائد الشعريّة "لحكاية علي بن بكار وشمس النهار" التي ترجمها من العربيّة إلى الفرنسيّة، خاصة وأن جمال الدين بن الشيخ قدّم إلى جانب أندري ميكيل (André Miquel) أوّل ترجمة فرنسيّة كاملة "لألف ليلة وليلة". والتي يقول عنها جمال الدين بن الشيخ نفسه بأنها ترجمة القرن الحادي والعشرين.
     هكذا وضع المهداوي لهذه الحكاية الخالدة كتاباً فنّياًّ موسوماً بعنوان "متعة حتى الموت" (La Volupté d’en Mourir) في طبعة فاخرة مُذهَّبة. يمتاز الكتاب بغلاف فنّي باللّون الفيروزي المتدرّج من مزج اللّون الأزرق والأخضر الذي يعشقه المهداوي. فهو بارعٌ في توظيف اللّون الأزرق والأخضر الذي يميّز أعماله برونقه المتدرِّج من اللازوردي. وقد رُصِّعَت لوحة الغلاف بحروف ذهبيّة يتصدّرها حرف الحاء والباء بهندسات مختلفة. فخلق منها جسداً حيّاً قِوامه الحبّ. جسدٌ يرى، ويشعر، ويعبّر، ويتواصل مع المتلقّي من خلال لغة اللّون. ما منحها عمقاً دلالياًّ رمزياًّ يحملنا إلى عالمٍ إبداعي فكري ساحر. وقد اكتملت في هذه اللوحة دائرة الحب لتبدُوَ كشمس مشرقة في سماء العاشقين. هذا العِشقُ الذي امتدّ لقُرون بين الشرق والغرب، فألهبت خيال الأدباء والمستشرقين على السواء. وكانت مصدر إلهام للعديد من الفنّانين والرّسّامين والموسيقيّين في كل العالم.§        
     ويرى نجا المهداوي أن مقاربته لعمله "متعة حتى الموت" يروم حول إنجاز عملٍ جمالي متفرِّد بإعادة كتابته وصياغته في تناسقٍ مع الترجمة والبُعد الجمالي. فللألوان مثلاً دلالات متعددة ومختلفة عند الشعوب والثقافات المختلفة. فاللون الأصفر مثلاً عند الصيني له دلالات مختلفة بالنسبة للمغربي. بخلاف دلالة ألوان قوس قزح التي نعطيها نفس الدلالات.[9]
أغنى من ألوان قوس قزح
     اللّون عند المهداوي أغنى من ألوان قوس قزح. هكذا وصف نزار قباني اللّون في لوحات المهداوي. ونزار شاعرٌ رسم عالمه بالكلمات. ومن أشهر شعراء توظيف اللّون في الشعر الحديث. فشعريّة اللون سمة مميّزة لقصائد نزار، وقد عُرف عنه ولَعُه للزخرفة والتّطريز والتّزيين. فكيف يستثمر المهداوي اللون في أعماله الفنية؟
     يستثمر المهداوي اللّون بانسجام داخليّ منفَتِح على شساعة الخيال كما سبقت الإشارة. فحروفه متعددة الأشكال والألوان، رسمها المهداوي كما رآها حقيقة. فالضوء مصدر كل الألوان. واللون عبارة عن انعكاس أحد ألوان الطيف ومصدرها نور الشمس. لكن للنور عند المهداوي مصادر متعدّدة مستوحاة من المعرفة الصوفية، وقدسية الحرف العربي. ومن روحه المجبولة على الوفاء والإخلاص، وهو القائل: "رسمتُ فن الوجود، ونقشتُ فن الإخلاص، كما نسجتُ فناًّ تذكارياًّ لا يُنسى، وحوّلتُ أصل الدلالات الغير القابلة للتجزئة من الكتب المقدّسة." [10]
     وأعمال المهداوي لم تقتصر على المتاحف وقاعات العرض فحسب، لكنها جابت عواصم وعوالم وقارّات، بعد أن ارتقى بالرّؤية البصريّة للحرف العربي إلى أقصى مداها، فامتلكت أعماله صفة المرجعيّة من خلال صوفية الحرف وفلسفته وتحرّره من كل مرجعيّاته القديمة إلى أُفق معاصر متحرّر من سلطة الماضي إلا ما اقتضته سلطة الإبداع.
     وقد اختارت شركة "فايسبوك" أحد أعماله لتزيين مقرّها الرئيسي بولاية كاليفورنيا، بالولايات المتحدة الأمريكيّة والتي نالت إعجاب مؤسّسها مارك زوكيربيرغ تحيّة من سان فرانسيسكو لنجا المهداوي. عملٌ يجعلك تفكّر وتحار كيف يجري الكلام، وكيف يجري الفنّ، وكيف نجح المهداوي في أن يصنع بالحرف العربي كوناً قائماً بذاته يسع كل العالم ليسافر به إلى عوالم المجهول واللانهائي.
الأصالة والتّفرّد
     وصل المهداوي بالحرف العربي كضرب من ضروب الفن التشكيلي التجريدي إلى قمّة الخلق والإبداع، بعيداً عن أيّ محاكاة أو تقليد. فهو لا يحمل في ذاته أيّ معنىً أو دلالة. فحروفه تغنّي، وترقص، وتتمايل في استقلال تامّ عن أيّ مضمون، باستثناء قيمته الجماليّة وتشبّعه بمعايير الجماليّة الهندسيّة والفنّيّة ضمن نسيج تصويري لحقائق الحياة والوجود والغوص في أسرار الكون، وهو ما صنع تفرّده.
     الحرف عند المهداوي فنّ وخَلْق وإبداع، يختزن كلّ الإشارات. فهو في حركةٍ دائمة ينطلق من الحاضر ويمتدّ إلى عبَق الماضي ويستشرف المستقبل. فكلّما أطلتَ النّظر في أعماله الفنيّة إلاّ واقتربتَ من إيقاعات ألحانه السّمفونيّة وهندسته الرّوحيّة التي لا تأتي من مغامرة تشكيل الحروف وبهجة الألوان وتناسقها، ولا من رمزيّة الحرف في حدّ ذاتها، بل من كل هذه العناصر مجتمعة، وما تثيره من مشاعر عند المتلقّي لِما تعكسه من جِدّة وفرادة. تقول رشيدة التريكي: "أبدع نجا المهداوي، بمتانة معرفته وبصلابة تقنيّاته، أساليب جديدة مقحماً حركيّة إبداعيّة تضافريّة عندما أدرج الحرف العربي في فن الرسم وقد حرّره من سجن المعنى وحبس الرّمز في الآن نفسه. وقد تأكّد هذا التحرّر وعظم شأنه بممارسته الإبداعيّة الحاليّة في لوحاته ذات الحجم الكبير مع تأطير غير معهود وبواسطة عمليّات مزج تجريديّة حرّة وصرفة للألوان." [11]
     فسافرت حروفه على أجنحة طائرات بوينغ وأخذت شكلها على واجهة البنايات، والسّجّادات، والجداريات، والمنحوتات، وفي تجاربه على الطبول، والنسيج، والزجاج، والجلد، والذهب، والقماش، والخشب، والطّين، والفخّار، والنحاس، والورق المصنوع من الأرز. وقد يتحوّل البساط السحري إلى غوّاصة زجاجية لاستكشاف لوحة المهداوي في قاع البحر التي تزن حوالي 50 كيلوغرام من مادة الإسمنت والميلامين المقاوم للماء. يقول بأنه ترك عليها شكواه إلى الله. وقد كتب "لا أحد يرى هذا سوى الأسماك في قاع المحيط وعين الخالق". كما حفرَ المهداوي باللّيزر على جبل جليدي من الثّلج بين فرنسا وسويسرا.  وقد تعاون مع العديد من مصمّمي الأزياء من مختلف دول العالم وخاصّة مصمّم الأزياء البريطاني ماريوس شواب.
     ما يميّز الطابع التجريدي للوحة نجا المهداوي هو فرادتها وتميّزها في المزج التشكيلي بين الخطوط الهندسية الأفقية، والعمودية، والمائلة، والمتشابكة، والمتقاطعة، والمتوازنة، وغيرها، وعلى الدوائر، والمستطيلات، والمربعات، والفراغات، والامتلاءات، وتعرّجاته بين توظيف الخط الكوفي، والنسخي، والديواني...في تراسل غرافيكي استثنائي يحمل بُعداً روحياًّ برؤية معاصرة تكشف عن إبداعيّة متميّزة في التشكيل الحروفي المعاصر. فصلاة الحرف وقداسته عند المهداوي ورشاقته ولُيُونَته وجماليّته توحي بتجريديّة عميقة لامحدودة تثير الدهشة عند المتلقي، وتذهب به إلى عوالم متجاورة موسيقيّة، وشعريّة، وسينمائيّة وغيرها.
     ويعمد نجا المهداوي إلى تقنيّة تغيير حجم الحروف بتكبيرها وتصغيرها وتوزيعها بين الفراغات وتنويع ألوانها. يقول: "بالنسبة لفنّي فإني أنطلق من النقطة وإليها أعود."[12] فتشغل حروفه معظم مساحة اللّوحة، لكن تبقى محتفظة برقّتها وشفافيّتها وإيقاعاتها المختلفة لتُشكّل عند المتلقّي حالة من الإشراق والمناجاة في محراب الفنّ بأبعادها الصّوفيّة القدسيّة التي أنتجتها ريشة المهداوي بدرجات ألوانها الفاتحة والغامقة والمُضاءة والمُعتِمة بإحساس غرافيكي راقي لإبراز القدرة التشكيلية التّجريدية للحرف العربي. ما يعني أن المهداوي خَبرَ أسرار الفنّ وقواعده وأدواته. يقول عفيف بهنسي: "في خطاب تشكيلي بليغ تمتزج أنواع الخطوط فلا تدري هل أنت أمام خط كوفي أم خط مغربي أم خط فارسي أم ديواني، هكذا يصبح الخط في أعمال المهداوي صيغة فنية محضة تتجاوز المعنى المحدود كما تتجاوز الأسلوب المعروف."[13] 
     هو ذا المهداوي عبقري أسطوري في فنّه، في يده جمرة من نور لا تنطفئ. هذا النور الذي يغمره بفيضه المطلق. وبحروفه ينسج أحلامنا التي عشقت السّفر والتِّرحال، وعشقت الحرّية من خلال حرّية التّوزيع الخطّي وامتداداته التشكيلية اللامتناهية، ومن خلال التقاطعات اللّونية. فكانت حروفه بمثابة قبسٍ نوراني استمدّه من ثقافته الفنّية العالمة، وخبرته التّشكيلية العالية، وشغفه بتشكّلات الحرف العربي بالشكل الجمالي الذي يُغري العين في تواصلٍ بين جمالية التشكيل وجمالية العلامات المنفتحة على العديد من التأويلات والقراءات.
 

 


[1]  نجا المهداوي، مفهوم التحول في الفضاء التصويري، كتاب فنّي بدون ترقيم Art Advisory Associates Limited. London, 2007.

[2]  عفيف بهنسي، نجا المهداوي والخروج من العدم، كتاب فنّي، Art Advisory Associates Limited, London, 2007

[3]  عفيف بهنسي، نجا المهداوي والخروج من العدم، كتاب فنّي، المرجع السابق، بدون ترقيم.

[4] Nja Mahdaoui, L’Art-calligraphie, L’Or du temps, Tunis, 2001, p.81  

   [5]  نجا المهداوي، كتاب فنّي، بدون ترقيم  Art Advisory Associates Limited, London, 2007

[6] Nja Mahdaoui, Words by Dr. Salah Shirzad, Rachida Triki, Hatem El Nakaty, PIU PLUS Limited-London, 2008

[7]  Maurice Blanchot, Le livre avenir, Folio/Essais, Gallimard, 1995, p. 281  

[8]  ابن عربي، الفتوحات المكية، ضبطه وصححه ووضع فهارسه أحمد شمس الدين ج.1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1971، ص. 106

  • §  وله كذلك من الحروف اللفظية: الهمزة واللام والفاء. وله من البسائط: الزاي والميم والهاء والفاء واللام والهمزة. وله من المراتب كلها (...) وله مجموع عالم الحروف ومراتبها ليس فيها ولا خارجاً عنها نقطة الدائرة ومحيطها ومركب العالم وبسيطها. (ابن عربي، الفتوحات المكية، ضبطه وصححه ووضع فهارسه أحمد شمس الدين ج.1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1971، ص. 106)
  • §  وقد ألهَمت رسومات المهداوي المصمّمين. فعمدوا إلى تحويلها إلى قطع مجوهرات رائعة وخاصة مؤسّسة "شانتيلا موناكو" لصناعة المجوهرات. تقول نيكوليتا دانييلي مديرة التسويق في المؤسّسة: "مصممينا كالملايين من الذين سحروا بهذا الكتاب القديم وأخيراً حصلوا على الفرصة لتجسيد خيالهم عندما قابل فريقنا الفنان التونسي "نجا المهداوي" الذي صور برسوماته كتابا رائعا يحتوي مقتطفات من ألف ليلة وليلة، حيث ألهمت هذه اللوحات مصممينا والنتائج كانت مبهرة." وذلك بالاعتماد على كتاب المهداوي "متعة حتى الموت" (La volupté d’en mourir) بدراسة فريق الإنتاج للمُنحنيات والتّكوينات البصرية الموجودة في أشكاله الفنّية.

[9] La Volupté d’en mourir : Conte de Ali ben Bakkâr et Shams an-Nahar (tiré de Mille et Une Nuit), Editions Alternatives, 2001, p. 87

[10] Nja Mahdaoui, L’Art-calligraphie,, L’Or du temps, Tunis, 2001, p.97  

[11]   رشيدة التريكي، تحرير الخط وجمالية التفكيك، تعريب فتحي التريكي، كتاب فنّي Art Advisory Associates Limited, London, 2007

[12] Nja Mahdaoui, L’Art-calligraphie,, L’Or du temps, Tunis, 2001, p.10  

[13]  عفيف بهنسي، نجا المهداوي والخروج من العدم، كتاب فنّي، Art Advisory Associates Limited, London, 2007

of 27