2015 - بصمة" المهداوي"

شربل داغر

شربل داغر

    كتب جان-جاك روسو قديماً عن أن اللغة للإنسان تمثل تلك "الإضافة" (supplément)، ذلك الشيء "المزيد"، ما يعزز ويقوي من طاقاته وقدراته. ولو طلبت استكمال قول روسو لقلت بأن الهاتف النقال بات استطالة جديدة لليد في هذه الأيام.
     هذا ما فعله بدوره نجا المهداوي إذ جعل من القلم، من قلمه، امتداداً مزيداً لكيانه، بل خطَّ بقلمه هيئتًه وتوقيعه في الوجود. ففي فن نجا المهداوي علاقة أكثر من فنية، علاقة وجودية، بين اليد والقلم، من جهة، وبين الإنسان والوجود، من جهة ثانية. هذه العلاقة تبدو للناظر إليها سهلة، تلقائية، فيما يكفي أي واحد منا أن يضع خطاً فوق ورقة بيضاء لكي يدرك صعوبة أن يتحول خطه هذا إلى شكل فني، وصعوبة أن يجعل من هذه الورقة لوحة فنية.
    ما يربك في فن المهداوي هو أنه يبدو سهلاً، متاحاً للجميع، فيما هو حاصل خبرة مديدة وخيارات اختمرت واجتمعت كلها في تجربة، في أعمال فنية، لها كلها علامة المهداوي التي تميزه عن غيره من الفنانين. ولو شئت إبراز ما أريد قوله لأخفيت عملاً للمهداوي من دون توقيعه بين أعمال فنية عديدة لغيره، ولطلبتُ منكم التعرف على عمله بينها... التمرين سهل، مدهش، يتمكن بواسطته متذوق الفن من أن يميز عمل المهداوي عن غيره في تاريخ حافل بالخط وإنجازاته. ذلك أنه باتت للمهداوي "بصمته"، كما يمكن القول.
    هذه البصمة علامة مكثفة في تاريخ من الخط العربي، في تاريخ من العلاقات التفاعلية بين الرسم والخط، وفي تاريخ خبرة المهداوي في توليد الأشكال. وأشد ما يميز هذه التجربة هو أنها ليست خبرة تقنية، مثلما قد يتوهم البعض، وإنما هي التاريخ السري والعلني لميول اليد، قبل ذاكرتها. فالمهداوي لا يتقيد بقواعد مسبقة، وإنما يترك ليده حرية التجول في العتمة، في البياض، عاملاً على استجلاء أشكال هي ما يتسلل في الشرايين قبل سواد الأقلام.
    تحمل مجموعتي الشعرية الأخيرة عنوان: "على طرف لساني"، وهو ما يناسب تجربة المهداوي نفسها: على طرف قلمي، إذ يحمل القلم ذاكرة مسبوقة من دون شك، إلا أنه يميل فوق الورقة وفق إيقاع الرغبة. لهذا فإن ما يقوم به الفنان يرسم انفعالاً بقدر ما هو يتقيد بالمسطرة أو بمجزوءات الحرف العربي.
    قيل الكثير في الحروفية، عند انطلاقتها قبل عدة عقود: منهم من حاربها لأنها تضلل الطريق صوب الفن الحديث، ومنهم من دافع عنها بوصفها أوجدت "هوية" – جاهزة أكاد أقول – للفن العربي الحديث. فن المهداوي لم ينتسب لهؤلاء ولا لأولئك، إذ رفع الفن من ميدان الإيديولوجيات وجعله في ميدان التجربة الفنية والجمالية، ونجح في إنجاز موسوعة للخط في الفن، تُبهر وتُدهش، وهي محط إعجاب واقتناء ودرس في العالم أجمع.

 

20-3-2015

of 27