1997 - في مطھر الحروف

عبد الوهاب بوحديبة

كتالوج المعرض الفردي، ميم جاليري 2007.


لا يستطيع أي كان أن يسعى الى تجديد جذوره الثقافية ما لم يتمتع بوعي حاد لمحيطه وبيئته ويمتلك نباهة متقدة وقدرة على اعادة النظر بالحياة في شموليتها فضلاً عن امتلاكه لحس ابداعي عال. انها في الواقع الميزات التي تتسم بها أعمال نجا المهداوي الذي يسحر ويبهر كلما نجح في استيلاد ذاته. ببراعة قصوى يعمد نجا الى اعادة النظر بملكة الخيال العربي التي هي في حالة امتلاء دائم. أعماله تشكل روابط متينة مع أسلافه على الرغم من مرور الزمن والتحولات غير المتوقعة للكلمة.

 

نجا المهداوي اختار أن يتكىء على الحرف العربي. وكان الخيار حكيماً طالما أن الحرف هو خط التماس للكينونة والكلمة معاً. فالكتابة هي خط لاشارة تهدف بشكل أساسي الى المساهمة في عملية القراءة. لكن الكتابة هي أيضاً وسيلة لحفر الاشارة وبناء ركيزة تستند عليها لتنمو جذورها في الموروث الاجتماعي. للحرف ثلاث وظائف: أن يكون علامة وأن يحفظ وأن يشهد وهنا لا بد لنا أن نتذكر أن نزول القرآن الكريم نشأ من الاشارة. الاشارة تحمل في طياتها الكينونة وتمتلك هوية. 

 

لكن مع نجا المهداوي يختبر الحرف تجارب تجديد شاملة. فهو يكتسب نبضاً جديداً ويفيض ليتخطى الاطار (بكل ما للكلمة من معنى) الذي، بدل أن يحدده، يسهم في تدفقه وانطلاقه. وبتفجره من الجذور يكسر الحرف مصطلحات المعنى المتعارف عليها لا لتدميرها بل لتخطيها كما لو أنه يريد أن يظهر بأن مهمته لم تنته بعد وأنه قادر على العمل على كافة أنواع الفرضيات.

 

من هنا يتخلى الحرف عن رابطه الانفرادي بالمعنى الذي يحمل رمزاً ثابتاً لأنه بات واعياً لطاقته وقدرته على الابداع لانتاج معناه الخاص. وهو غير معني بإعادة انتاج معنى مسبق. كما يتم استثمار الحرف من أجل رسالة عظيمة تتمثل في الترويج للمعنى من أجل ضمان استيعابه والتسليم به  بالكامل. أبعد من جماليته التصويرية، فإن الأهم في الحرف هو تجذره الكامل في أشكال والوان وحركات متنوعة. انه فعل تطهير يخضع له الحرف. انها رحلة البحث عن نظم جديدة من التعبير.

 

من عمل الى آخر، يضيء نجا المهداوي على موهبته ومهارته المزدوجة في الاعتناء بالانسان وفي ابتكار المعنى. من هنا يتجلى بحثه في استخدام مواد جامدة كالورق والمخطوطات والمعدن التي تصبح بين يديه نابضة بالحياة. من هنا أيضاً تأتي محاولة القبض على الجسد الحي ليمسي الرسم رقصاً. ويتلاشى الحرف لصالح حركته الخاصة التي تعانق كل ما سواها من خلال البحث عن المدى الأقصى لامكانياتها الخاصة. وفيما يسعى الحرف الى التخطي يكتسب حياة ويبتكر حياة. وفي عملية انعتاقه وتحرره ينمو الحرف ليصبح أداة عالمية لتحرر كل انسان.

 

ميزة أعمال نجا المهداوي انها لم تنته وقد لا تنتهي طالما أنه ليس من نهاية أبداً. وبتحريره للحرف يضمن نجا حريته وحريتنا. أليست هذه أجمل هدية يقدمها لنا!

 

13 
of 27