Nûn (Tunis: Simpact, 2000)
عالم الفن الحديث لم يعد ينتسب للحداثة كما وصل إليها الغرب، فما يسمى حداثة الفن، قد اقترب من العدم فأحرق أوراقه وكسر خطوطه وهدر ألوانه في مستنقع العدم، ومازال غارقا في تية المسيرة المضطربة التي ابتدأت مجرد علامات طائشة لوالب وحلزونات وقواقع وبقع وخطوط. ومع ذلك فإن كـتـابـا من الروحانية في الفن، فلسفة تجريدية كاندينسكي (Kandinsky) اليهودي التائه الهارب من ربقة البلشفية، إلى حيث الحرية التي استغلها فـي كـتـابـه وفي لوحات تحت شـعـار الروحانية ثمانون عاما ومازال العدم يتصارع مع العدم، معركة سميت، حداثة، وطبعت هذا القرن الفني المقلق الذي انفصل عن وجوده وتاريخه ومستقبله ليصبح مدمنا على فقدان الوعي لاجئا أحيانا إلى اللاوعي وهو يتعاطى حبوب الدادائية (Dadaïsme). ثم يدعي النبوة ويبحث عن المستقبل بين أنقاض التاريخ والحضارة، والمتاحف، ويحمل شعارا جديدا يصبح معه جمال السيارة أروع من جمال الجوكندا (La Joconde)، يصبح المقعد وحامل القوارير نحتا، وتدخل الخدع السينمائية في عالم التشكيل ويصبح البصر أساسا لفن قلق ثم تتحرك الألوان في الفضاء بفعل الهواء والرياح، أو تتحرك الأشعة الضوئية الملونة منعكسة على الجدران بفعل الكهرباء أو المغنطيس. ويدخل الفن الثابت في لعبة الزمن، وكان مجد هذه اللعبة. عندما اكتشفت جماهير وهواة أعمال كالدر(Calder) او شيفر(Shaffer) أن التمثال او اللوحة يتغيران باستمرار.
ولن يرى الواحـد منهـا مرتين أبدا، هكذا سار الفن في طريق صاعد هابط، يمتحن الكوارث والنكبات، وفي طغيان المادة والاستهلاك. ويكتشف أخيرا أن العدم هو سر الوجود. وأن جوكندا الحداثة لوحة صماء لا لون فيها ولا خط ولاعمق، إنها شئ ولاشئ. إنهـا مـوقف ولا موقف وانتقل هذا الضياع إلى جميع أشكال الإبداع حتى استيقظ الشعور الفلسفي. وكانت نظرية و«ليس بالإمكان إيداع من كان»، هي الحداثة بعد أن نعاها رونية هويغ (René Huyghe). الذي قال لنجا المهداوي «أنتم العرب بيدكم مفتاح خروج الفن من العدم» هكذا قال وهو ينظر إلى لوحة من أعماله.
ما الذي يستطيعه نجا مهداوي وقد أصبح من العرب الذين يتحملون مسؤولية إلغاء العدمية في الحداثة التشكيلية.
في بيئة تونسية أصيلة، تعلم نجا دروس الخط العربي، لقد عرف من أبيه وأمه وإخوته، أن الخط العربي هو عبقرية التشكيل العربي. فكان يدخل في ثنايا الحرف والنقطة بقصبة صغيرة. فلا يدري من أين يدخل ومن أين يخرج لأنه لم يكن يعرف ان لهذه الحروف والإشارات معنى لفظيا محددا، ولم يكن من شأن ذويه أن يصححوا ما يكتب بحسب قواعد الكتابة والخط، فلقد أدركوا بحدسهم أنه لا يريد أن يكتب ويقرأ ما يكتب بل هو يريد أن يشير برموز مستمدة من بلاغة الخط العربي لشيء جديد، وتتالت الأشياء الجديدة حتى أصبحت خطابا بلاغيا، وتوالت الخطابات حتى أصبحت فنا قائما بذاته يحمل رسالة إلغاء العدمية في الفن الحديث.
العودة إلى الجذور هي طريقة الخلاص بعد اختصار الحداثة، وكان على المعماريين والآباء والموسيقيين و التشكيلين في العالم أن يصغوا السمع إلى رنين أجراس ما بعد الحداثة وكان على أكثرهم أن يفتح صفحات معاجم التراث لكي يبحث عن أرومته من خلال أي عصر فني من عصور الحضارة.
كان نجا المهداوي قبل أن يقرع جرس ما بعد الحداثة قد أنصت بخشوع إلى لحن الأصالة: الذي رنمته أمه وهي تمسك بيد ابنها في طريق إبداعه الفني، هذا الطريق الطويل الذي لم يصل إلى نهايته نجا مهداوي، فعند كل زاوية أو فسحة أو زنقة من زنقات تونس العتيقة. كان على نجا أن يعود إلى الزيتونة فيرى سحر مخطوطات القدماء، آية تشد أزره وتدفعه من جديد لمتابعة الطريق في كتابة لوحة فنية، مضمونها الفن.
لقد اعترف نجا المهداوي أن رقا من المخطوطات القديمة تزهو بخطها الجميل، ما كانت تغريه لقراءة مضمونها بقدر ما أغراه دائما شكلها، فكان يقرأه بنهم ونشوة وكأنه يتابع محاسن لوحة عجز عن رسمها ليوناردو(Leonardo) و رامبرن (Rembrandt) وحتى دلاكروا (Delacroix)، ولكنه بول کلی (Paul Klee) وحده الذي وقف ذات يوم أمام سحر المخطوطات، وكان يقرأها بعمق دون أن يسأل نفسه أكان عليه أن يبدأ ذلك من اليمين أو اليسار من الأعلى أو الأدنى؛ هكذا بدت له هذه اللوحة المخطوطة آية فنية يصرف النظر عن مضـمـونهـا القـدسي أو البـلاغي أو الـشـعـري.
سؤال محير أجـاب عليـه المهداوي: لماذا تكتب مـا لا يـقـرأ يا نجـا؟...
(المصورون الكتابيون العرب والمسلمون مـزجـوا بين بلاغة اللغة وبلاغة الشكل مما خلو إشكالية أنا تحاشيتها) صحيح فالنقاد الذين انحازوا للفن العربي وجدوا في الكتابة العربية إنقاذا للفراغ المضمون، فالمضمون اللغوي هو البديل عن المضمون التشكيلي. والنقاد الذين انحازوا للخط العربي وجدوا أن اللوحة الكتابية هي تطوراً لأساليب الخط، ولكنه تطور يهـدر كـرامـة الخط الشريف الذي وصل إلى الـقـمـة فـي عـهـد المستعصمي ولم يفطن هؤلاء النقاد إلى القيمة التشكيلية الجديدة التي أرادها الفنان. والنقاد الذين أرادوا البحث عن المضمون من خلال المعنى اللغوي للكلمة، وجدوا فيها طلسما فاقدا لآية بلاغة أدبية أو موقف مسؤول.
والناقـد أمـام أعـمـال نـجـا المـهـداوي لا يبحث عن مـضـمـون مـحـدد بل هو يستسلم للمضمون التراثي الواضح في أعماله التي نفذها على الرق، يندمج بالهوية الأصيلة التي انتسب إليها المهداوي ليشترك معه في بناء معنى لا يحده الزمان والمناسبة والحدث بل منفتح على كل الأزمنة والمناسبات والأحداث، ومع ذلك فهـو يقرأ شعرا ونثرا من خلال غنائية التركيب وانطلاقات الأحرف الرمزية ولا يبحث من خلال الشكل عن أسلوب الخط التقليدي. ففي خطاب تشكيلي بليغ تمتزج أنواع الخطوط فلا تدري هل أنت أمـام خط كوفي أم خط مـغـربـي أم خط فارسي أم ديواني، هكذا يصبح الخط في أعمال المهداوي صبغة فنية محضة تتجاوز المعنى المحدود كما تتجاوز الأسلوب المعروف. ذلك أن الخط هنا هو جـزء من مـركب اللوحـة، وليس جـزء مـن مـركـب الـورقـة المخطوطة. ومع أن هذا الجـزء مـن الخـطـاب الحـرفـي هو الأهم في تكوين أسلوب المهداوي، فإن الإجزاء الأخرى لا تقل أهمية في التعريف بأسلوبه، اللون، الفضاء التشكيلي، التكوين المعماري، هي أجزاء متممه لشخصية المهداوي التي تميزه عن غيره من الرسامين العرب، أصحاب الاتجاه الكتابي.
لقد انطلق المهداوي من أعرق مراكز الثقافة العربية، ومع ثقافته العربية فإنه أدرك أنه غير قادر على كسر طوق التبعية الثقافية الغربية إلا بالحوار، فالمسألة عنده لا تقوم على أساس العقدة (الأوربية) ولا على أساس (الفوقية الإسلامية) بل على أساس احترام الذات المبدعة ولأن الغرب لم يدرك أسرار الشرق إلا من خلال الجوالين والسائحين والمغامرين فلقد أراد أن يقف على خشبة المسرح العالمي، ليس متحديا بل داعيا إلى الحوار، هكذا أنتج لوحات مشتركة مع فنانين من الغرب، ولعل ما قدمه بعد هذا الحوار الجدلي كان كافيا للقناعة، من أن ما للشرق هو للشرق وما للغرب هو للغرب، وإن ما بينهما من جدلية يعود إلى الخلافية المعرفية وليس إلى القطعية وإن الشرق والغرب معا قادران على خلق حضارة المستقبل.
فإذا كان الغرب قد أدركه الوهن من طغيان المدارس الفنية والاتجاهات العدمية غير المسؤولة وغير المنتمية، فإن الشرق مازال يملك زمام نفسه مؤمنا بـوحـدة الزمن، فالماضي والحاضر والمستقبل آنات لا يمكن فصلها، والكائن اليوم هو نفسه الكائن منذ بداية التاريخ وإلى الأبد. هكذا يقف نجا المهداوي مع المحاورين من أبناء الغرب على ساحة لوحة واحدة معبرا عن وحدة التاريخ ووحدة الإنسان مع نفسه وبيئته وثقافته، هذه الوحدة التي يبحث عنها المبدع في الغرب، وهو يرفض بقوة مبدأ الحداثة الذي أوصله إلى الصفر واللاشيء واللامنتمي، ليؤمن بمبدأ جديد لم يطلق عليه تسمية بعد، ولكنه مع ذلك مبدأ يأتي بعد الحداثة (Postmodernisme).
على أن الدعوة إلى الأصالة التي استجاب إليها المهداوي مازالت الهم الذي يشغلنا، فهي نيست دعوة عاطفية شوفينية، بل هي دعوة معرفية بالغة الأهمية في بناء ثقافة المستقبل الشرق والغرب. وكان علينا أن نشارك في بناء صرح الفكر الفني الحديث، القائم على الثروة التي تراكبت عبر آلاف السنين على أرضنا فجميع الحضارات والفنون والأوابد التي أنشئت منذ أكثر من خمسة آلاف عام من الخليج إلي المحيط هي من صنع انسـاننا الذي تكلم باللسان الذي ورثناه كمـا ورثه أجدادنا من الأكاديين والعموريين والفينيقيين، والذي أنشأ مدنا ما زالت قـائمـة آثارها في بابل وماري قرطاج.
هذا التاريخ الطويل لا بد أن يضم عراه خيط ثقافي واحد كان معينا لنا على إقامة فلسفة الفن الحديث في العمارة والرقش والخط والتصوير ولا بد من جـدل مستمر بين العمل الإبداعي الحديث وبين ملامح الفكر الفني الحديث، لكي تبقى المحاولات والأساليب الحديثة دونما نسخ تعيش وتنمو وتزدهر عليه فإذا كانت أساليب الفن منقطعة الجذور، حتى ولو كانت قد تشكلت على أساس فهم خاطئ بعمقها التاريخي والمعرفي، فإنها لا تلبث أن تذبل وتموت هكذا ندعو إلى الجدل المستمر الذي يولد فنا مستمرا متجددا لا يخشى السقوط بالعدم والنهاية.
إن نجا المهداوي يدعو إلى الخروج من العدم الذي هوى إليه الفن في الغرب، وهو يقيم دعوته معتمدا على إلهامه وإيمانه.
ولكننا مع ذلك ندعوه إلى الجدل مع الفكر الفني العربي الحديث، دون أن يكون بمقصدنا أن ندعوه إلى خلق نظرية جديدة أو فلسفة جديدة، فهو وأمثاله سيبقون نماذج حية فاعلة لمتابعة بناء فلسفة الفن الغربي الحديث وبهذا المعنى أكتب اليوم صفحة من هذه الفلسفة وأنا أتأمل أعمال نجا المهداوي التي كتبها بخط عربي نستطيع قراءته دونما معجم أو معلم.