"الحروفية العربية : فن وهوية"، (بيروت: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، ١٩٩٠)، صص. ٩٢-٩٥.
اللوحة – الكتابة
نجا المهداوي
صور أرقام ٣١-٣٢-٣٣
موج من الكتابة. كتابة من الموج.
بحر من حبر. حبر من بحر.
البحر لغة، موجته كتابة ورذاذه حروف. اللغة مثل البحر دهرية وراهنة، ثابتة ومتبدلة. نسبح في المياه نفسها، نكتب بالحروف ذاتها.
نجا المهداوي يعوم في ماء اللغة. أية إلفة قديمة ! يتساكنان، يتوازيان كما في المرآة أو فوق صفحة الماء الصافية. يتعايشان ويتحاوران مثلما البحر واللغة عند عربي فوق ضفاف المتوسط.
هو هو، وهو غيره. قديم، ومتجذر ومتحرر. مثلما يبدع الشاعر اللغة حين يكتبها من جديد. مثلما يستخرج الصياد البحري أصدافه المختلفة دائماً. يتماثلان ويفترقان، يتحاوران ويبتعدان: « أعود في فني إلى التراث بالطبع، ولكن لإخراج منه، وإلا فإنني سأموت فيه » .
نجا المهداوي كائن. . . لغوي.
هو يكتب، ولكن هل يرسم حقاً؟
العلاقات متداخلة، ملتبسة بين الكتابة والرسم، ولكن أين تنتهي الكتابة وأين يبدأ الرسم في تجربة نجا المهداوي؟ »أنا أكتب دون أن أكتب« ، يجمل الفنان قوله في أعمال.
الورقة البيضاء دائماّ، وهذا الحبر ! كأني به يجدد يومياً ما يقوم به الفنان الياباني حين يكتفي بنقطة حبر وحيدة أمام ورقة بيضاء لرسم ما يريده: ماذا سيكتب، ماذا سيرسم بالأحرى، فيما لو كانت نقطة الحبر هذه النقطة الوحيدة، النقطة الأخيرة في العالم؟
تتعدد الصفحات، تتنوع نقاط الحبر، إلا أن القصد لا يتغير: استكشاف طاقات الحرف العربي التشكيلية. هو يشكَّل، ليس إلا. لم يبقِ حاملاً مادياً واحدً إلا ووقَّع عليه تشكيلاته الحروفية. توقف طويلاً أمام الرق-الرق المنتج في ألمانيا، وأمام أنواعه الثلاثة المعروفة في اليابان؛ وتوقف أمام المعادن بصنوفها المختلفة، أمام منتجات الورق العديدة، أمام القماش، حتى إن عظم الإبل لم يسلم من إيقاعاته الحروفية، ولا... جسد ابنته؟ هنا، الحرف بمثابة النوتة، والكتلة الخطية، بمثابة الجملة الموسيقية، ونجا المهداوي يوزع و »يدوزن « مثل المؤلف الموسيقي، "كما في لعبة مجنونة، أكون الشاهد فيها على حركاتي. أراقب نفسي بنفسي وأضيع في آن معاً". الحدود فاصلة-متصلة بين الرسم والكتابة، بين العلامة والحرف. نحن بكم أمام هذه الأبجدية الغريبة، إلا إننا لسنا عمياناً، لحسن الحظ !
هو لا يكتب، بل يخط، يعود إلى الحروف أو مجزوءاتها، وإلى كسور العبارة، مثل مادة حية، يطوعها ويشكلها كيفما يشاء. فنه يشير إلى العربية، يومئ إليها، دون أن يوضحها. خطوطه تحيل إلى الطرز والأقلام المعروفة، الهندسية كما المائلة، من الكوفي حتى النسخي، ولكن دون أن تتقيد بها تماماً . أبجدية مستنبطة من الخطوط العربية، في أشرطة طويلة أو قصيرة، في تراكيب مستوية ومستقيمة، أو مائلة، أو حلزونية، محتفظة دائماً بوجهة الكتابة العربية) من اليمين إلى الشمال(، ولكن أن تؤلف أية عبارة مقروءة.
تراكيب خطية مرئية، ولكن غير مقروءة.
الإيقاع: هذا ما احتفظ به المهداوي من اللغة كشكل، مثلما يعطي موج البحر للبحر معناه ومبناه، صوته ورمزه.
عاد إلى إيقاعية الحرف الخطي، وإلى خاصيات الحروف نفسها تشكيلياّ. فعرف أن الباء والتاء والثاء والنون متشابهة، مثل الجيم والحاء والخاء، مثل الدال والذال، مثل الراء والزين، مثل السين والشين، إلى أن تجتمع في نهاية السلسلة الحروف غير المتشابهة مثل اللام والميم والهاء. كما عرف أيضاً أن نظامها الترتيبي يخضع لنظام شكلي، غرافيكي أساساً. ولكن ألا تشبه الميم الإلف فيما لو اقتطعنا الجزء الأعلى من هذا الحرف، والجيم العين فيما لو اقتطعنا الجزئين العلويين لهذين الحرفين؟ أليست الأبجدية العربية عبارة عن خط مستقيم وقوس؟ ألا نجد في هاتين الوحدتين أساس الخط العربي في خطوطه ذات الزوايا الهندسية أو الدائرية المائلة والمناسبة، وأساس الزخرفة العربية أيضاً مع الدائرة والمربع، وأساس المعمار العربي مع القوس والرمي؟ إذا كان العلامة، اللغوية تحديداً، تتألف من دال ومدلول، حسب دي سوسير، ومن لفظ ومعنى، حسب النقاد العرب القدامى، فان المهداوي يكتفي بالدال دون المدلول، وباللفظ دون المعنى. كتابة ملتبسة، إذن، فهي تؤلف جملاً وعبارات وكلمات دون أن تكون جملاً وعبارات وكلمات. هي جمل وعبارات وكلمات عربية، ولكن دون أن تحيل إلى جملة، أو عبارة، أو كلمة بعينها. يحتفظ بالكتابة، بشكلها التتابعي، بايقاعيتها، دون مدلولاتها. مثل أبجدية جديدة، غرافيكية.
نتبين حروفاً في غالب الأحيان، أو مجزوءات الحروف، دون أن نعرف تماماً إذا كان هذا الحرف يعود إلى الغين) بقسمها الأسفل (أو الخاء) بقسمها الأسفل(، أو إذا كان هذا الحرف يحيل إلى الجزء الثاني من الشين، أو إلى الجزء الثاني من السين، أو إلى الثاء دون نقاطها... كما نتبين في أعمال أخرى حروفاً عربية واضحة، جلية، دون تكسير أو اختزال، ولكن دون أن يؤلف تتابعها كلمة عربية معروفة. حروف تتناسل من بعضها البعض. حروف مخطوطة بجودة وإتقان وتنميق، وهو يستدعيها في محاكاة الشكل الإيقاعي للنصوص المكتوبة أو لتحف الخط العربي، يحاكي الشكل الإيقاعي، كما يحاكي المخطوط القديم نفسه، بشكله القالبي، كما بتوزع الكتل الخطية فيه.
يقطع المهداوي مع المعنى، مع الإبلاغ، مع تاريخ عريق من التوصيل، كان يؤدي فيه الحرف رسالة دينية ومعنى سامياً، عمله الفني لغة دون كلمة واحدة، نسق لغوي دون حرف واحد. حروف خطية بكماء، لكنها تنتظم وفق خط القراءة.
يخط، إذن، بحرية، موزعاً الكتل وفق طرق مبتكرة، تقرَّب العمل الفني من أساسيات اللوحة الفنية. العمل يقترب فقط، أي أنه يستقرض وحسب بعض الوسائل والطرق الفنية الحديثة. فالريشة لا تزال بمثابة قصب القلم، والسطح التصويري بمثابة خلفية الورقة للمخطوط. بالإضافة إلى أن الفنان لا يستعمل اللون لأغراض تشكيلية: اللون محدود (أسود أساساً، وأحمر وأصفر أحياناً)، ومبسوط دون تقميش أو ظلال أو تدرجات في الخامات.
صور ٣٣: تشكيل الخط