نجا المهداوي ليس خطاطا يمتهن تكرار الكلام والحروف، إنه خالق لعوال جمالية تؤسسها حركات الخط وتدرجات اللون. لا يسعى إلى كتابة كلام أو نقل كلمات، بل يؤسس لغته الخاصة من خلال حروف لا تسعى إلى أن تقول بل إلى أن تجعل من يراها يتخيل ما تقول أو ما تجسده من فضاء حُلُمي يوقظ المشاعر الدفينة وذلك دون صراع مع الكلمات أو اللغة بل السير فيها وبموازاتها وحولها.
أعمال الفنان التونسي التي نالت العالمية ووصلت إلى مشارق الأرض ومغاربها لم تكن وليدة الصدفة بل الجهد الكبيرالذي كرّسه للفن، إذ يسهرعلى عمله ويخصص له كل وقته ليخرج بذاك السحر الذي ضمن له مكانة بين كبارالفنانين.
ابن تونس العاصمة
ولد نجا المهداوي سنة 1937 بتونس العاصمة، المدينة التي شكلت وعيه وأدخلته إلى عوالم الفن التشكيلي بما كانت تشهده من حراك فني وحركات فنية، ربما غطت عليها مدرسة تونس، التي عاصرها ولكنه لم ينخرط فيها.
نالت مدرسة تونس التي أسسها الرسام الفرنسي بيار بوشارل في الثلاثينات أيام كان يقيم في تونس شهرة واسعة، وقد ضمت بداية رسامين غير تونسيين مثل بوشارل، أنطونيو كوربورا، موزس ليفي، كلود للوش، لكن مع بداية الخمسينات ضمت عددا من الفنانين التونسيين نذكر منهم يحيى التركي وعبدالعزيز القرجي وعمار فرحات والهادي التركي وزبير التركي وصفية فرحات وغيرهم.
ورغم أهمية ما قدمته هذه الجماعة للفن التشكيلي في تونس فإنها حجبت الكثير من التجارب المهمة. ولا ينفي المهداوي متابعاته لأعمال أولئك الفنانين المكرسين في بداياته، لكن ما يشغله أبعد من ذلك بكثير، تسكنه روح الشاعر المتمرد والفنان الحالم بعوالم أخرى غير التي رآها من حوله.
انتقد المهداوي بداية التيارات الفنية في بلاده سعيا إلى الانتصار إلى وعي جمالي جديد مختلف، لكنه سرعان ما فهم أن الاهتمام بنقد الآخرين لا يصنع منه فنانا أو مبدعا، لذا وجّه لاحقا كل جهده إلى عمله الخاص، دون أن يتخلى عن طاقة التمرد التي كانت ومازالت تسكنه.
خصوصية فنية
ربما كان لأم الفنان، التي امتهنت التطريز، تأثير عليه، إذ كانت تمارس تزيين الثياب أحيانا بحركات حروفية دون أن تكون خطاطة، ويقر الفنان بذلك وبأن هذا التأثير موجود في لاوعيه، ولعله أول مساهم في اقتحامه عالم الفن التشكيلي، الذي دخله شابا مولعا بالفن، وراح يرسم محاولا تحقيق رؤيته لفن جديد مختلف.
أيقن المهداوي مبكرا أن الجديد المختلف الذي يسعى إليه الفنان إنما يبدأ بتشكيل وعي مختلف، وعي لا يتوقف عند حدود الحاضر بل ينهل من الماضي، وهنا كانت رؤيته الفريدة للتراث العربي من خلال استلهامه لحركات الحرف وتأثره بإيقاعات الشعر العربي، ليبدأ تجربة متأثرة بالخط الإيراني، لكنها تفتح عوالم أخرى لم نرها من قبل.
ما يشدك في كل أعمال الفنان هو الحركة التي يخلقها، إنه يؤمن بالجسد، والجسد لغة، ومن هنا يجسّد الحرف في دورانه وعلوّه وانخفاضه واستمراريته وانقطاعه، في سلاسته وخشونته وحدته وليونته، مزيج من الحركات التي لا يعرف سرها إلا الفنان الذي يشتغل عمله بدقة من أصغر تفاصيله الدقيقة إلى أكبرها، حتى يخرج كحلم مكتمل.
يرى المهداوي أن التراث حي دائما فينا، ولهذا فهو يرفض تعبير إحياء التراث، من ناحية أخرى لا يرى التراث كما هو بل يراه في حركته وسيرورته وفي انفتاحه على الآخر، وهو ما يبعده عن نظرة الكثير من العرب إلى التراث التي تسقطهم في التقليد والانغلاق والتشدد أحيانا. نجا المهداوي فنان يسعى إلى ترسيخ التنوير، وهو ما ضمن له نجاحه الكبير في بلدان غير عربية قبل البلدان العربية.
لم تتوقف أعمال المهداوي عند اللوحات بل تجاوزتها إلى محامل كثيرة مختلفة، من السجادات إلى الجلد إلى الأثواب إلى النحت وصولا إلى انتشار أعماله على المساجد في دول عربية مختلفة لعل أبرزها السعودية، وعلى الطائرات والمباني العالمية مثل عمله في مبنى مقر إدارة شركة فيسبوك في كاليفورنيا والعديد من المطارات، إلى الأثواب التي انتشرت في أبرز عروض الأزياء، وغيرها من واجهات المباني والتصاميم التي حملت المهداوي إلى شتى أرجاء العالم.
كتب ونصوص
أصدر المهداوي العديد من المؤلفات مثل كتابه الذي جاء تفاعلا مع نص الروائية السعودية رجا عالم ”آية وآية“ وكتابه الآخر الذي عمل على نص نفس الكاتبة بعنوان ”مراتب العشق“، كما نشر ”كتاب الألف“، وهو عمل على نص ثنائي اللغة لإدوارد مونيك وعزالدين المدني، كما أصدر كتاب ”فن الكوليغرافيا“، وغيرها من كتب ألفها وأخرى كتبت عنه وعن تجربته.
صحيح أن أعمال المهداوي كما أسلفنا لا تسعى إلى نقل الكلمات، على غرار الخطاطين، بل إلى خلق عالم فني بخبرة الفنان التشكيلي المتمرس الذي تخرج من أكاديمية الفنون بروما ومن مدرسة اللوفر، لكنه لم يصارع اللغة العربية رغبة في التمرد عليها، بقدر ما أعطاها تأملات أخرى تخرجها من دائرة التكرار إلى تشكل بصري آخر تقوده الحركة وتدرجات اللون إلى مناطق مجهولة في الشعور والوعي على حد سواء.
سر العالمية
عديدة هي الدول التي عرض فيها نجا المهداوي أعماله مثل العربية كالأردن والسعودية والإمارات وغيرها من دول الخليج والمغرب العربي، كما قدم أعماله في بلدان غربية مثل ألمانيا، إيطاليا، الدانمارك، فرنسا، كندا، وصولا إلى أقاصي الشرق حيث عرض أعماله في اليابان أين أبهرت اليابانيين بشكل لافت واستلهم منها العديد من الفنانين اليابانيين.
حمل المهداوي عبر خصوصية اختارها لنفسه التراث العربي إلى مختلف الأصقاع، ولكنه لم ينغلق في هذا التراث بقدر ما قدم قراءة أخرى متجددة له.
ربما كان لطريقة عمله تأثير في أن تكون أعماله بتلك الحميمية والدفء اللوني والتمرد الحركي، إذ لا يؤمن الفنان بلوحة المحمل الغربي، بل يعمل على طاولة كبيرة، كما يشدد على أن مرسم الفنان يجب أن يكون في منزله، فلا يدري متى سيرسم ومتى تسطع الفكرة والرغبة في الرسم، كما أن مرسم الفنان يجب أن يكون جزءا أصليا في حياته اليومية، فالعمل الفني يومي.
سألت حين لاقيت نجا المهداوي في منزله بالضاحية الشمالية لتونس، ما الذي يصنع للفنان هذه التجربة وهذه الحظوة والانتشار والتأثير، ليكون فنانا عالميا بكل المقاييس، فهو فنان له بصمته التي تميزه عمّا قبله من مدارس ومن بعده من فنانين، وكأن الإجابة: العمل بجهد والتركيز فقط في التجربة الخاصة.
الكثير من المبدعين يتوهون في متابعة غيرهم ويهدرون طاقاتهم في صراعات فنية وفكرية وسياسية، ويؤثر بالتالي تركيزهم على تجاربهم الخاصة، وهذا ما لم يسقط فيه المهداوي الذي لا يرى أنه يملك وصية للفنانين بقدر دعوته لهم للعمل.
نجا المهداوي في عقده التاسع ليس فنانا حقق النجاح الكبير فقط، بل أيضا التجربة التي تستحق أن ندرّسها ونعممها في المدارس والساحة الثقافية لفنان لم ينتم إلى جماعة أو مؤسسة أو غيرهما من التكتلات، فنان فرد قاده جهده الكبير وتفانيه وإخلاصه لفنه إلى ما حققه.