بيان لجماليّة العلامة

1982 -تونس

البيان الذي ترجمه عن الفرنسية بشير قهوجي، وقُدم بالعربية خلال المعرض الشخصي 'نحوجمالية العلامة'، في مركز الفن الحي في مدينة تونس، في يناير1985.


Manifeste traduit du français par Bechir Kahouaji et présenté en version arabe lors de l'exposition personnelle Pour une esthétique du signe, au Centre d’Art Vivant de la Ville de Tunis, en Janvier 1985.

 

 

مثلما كان علينا أن نُناضل في سبيل استقلالنا فإنّه علينا أن نُعيد الاعتبار إلى قيمنا الثقافية (فنوننا). وهي ضرورة أوّليّة فرضت نفسها علينا منذ يوم تحرّرنا وفرضت نفسها في الغرب يوم تفطّن إلى خطر المقياس الواحد المقنّن.

        فالأمر أن نستعيد تراثنا الوطنيّ الذي يحوي كل الإنجازات المحلية والجهوية وكلّ أشكال الفن مع المحافظة على الانفتاح، فإذا كان المقياس الواحِد المقنّن يهدد بجعل الأفراد نُسخا متطابقة على حساب أصالتهم. فإنّ البحث عن الخصوصيّة الذاتيّة فقط يؤدّي إلى التقوقع العشائري والعقم. إذن يجب أن نتحقّق من خلال شخصيّتنا مع التفطن إلى ما يجعلنا نختلف عن الآخرين وهنا أصِلُ إلى الكلمة الهامة بالنسبة لي: الاختلاف الذي هو ينبوع غنى وإلهام وإبداع وهو ما نُسي طويلا أي طيلة الوقت الذي وقع فيه تقييم الحضارات والفنون على أنّها حضارات أو فنون راقية وحضارات أو فنون سافلة.

       اليوم كل حضارة تمثل نموذجا متفردا لا أعظم ولا أقلّ عظمة من حضارة أخرى: إنّها مختلفة.

       أعتذر عن تكرار هذه الكلمة لكنها الكلمة-المفتاح، إذ كلّ الحوارات التي يتبادلها البشريّون ليتعارفوا لا يعقدها إلّا الاختلاف.

       أجل إنّ الاختلاف هو الذي يثري وليس التشابه. لقد عشنا طويلا الاستعمار الفرنسي وليس من جديد الأفكار أن نقول أنّنا كنّا مستلبين إلى القيم الغربية في كل المجالات.

       في مجال الرسم وعلى الخصوص شكلُه الأكثر خصوصية: لوحة المسند والرسم الزيتي الذي يُعتبر الفنّ الكبير عند الغربيين، فنحن لا نمتلك تقاليده في حضارتنا. لقد استعرنا لا رؤيا الغربي فقط إنما جماليته أيضا. كان يبحث عندنا عن المثير عن النموذجي عن المغرب عن كل ما هو فلكلوري.

       رسامونا الأوائل استعاروا هذا التصور الحكائيّ وكان لنا نحن أيضا بَدَوْنا ومتسولونا ومساجدنا وجمالنا ...

       أما بخصوص الجمالية فقد كنا نتبنى المعايير الغربية كما هي وكان جميلا عندنا ما كان جميلا عندهم والجميل عندهم ما كان يدهشهم ويتعجبون منه، أي كان ما يرى فوق السطح هذا وإنّ مفهوم المبدع بمعنى الخالق كما ورثه الغربيّون عن الإغريق كان مجهولا عندنا (عند المسلمين) والأكثر من هذا أنّه مفهوم مُكفِّر. فالفنان ذو الفرديّة المستشارة كما يوجد اليوم في الغرب لم يكن معروفا فوق أرض الإسلام، إذ نفضّل في مجتمعنا استعمال مصطلح (الصانع) أو (المعلّم) وقد كان تواضعا لا يقلّل من شأن العبقريّة الخلاقة في الفنّان.

       وهكذا كان من المعتاد أن نقرأ أو نسمع أّنه لا توجد في تونس تقاليد تصويريّة لأنّ العقيدة الجماعية وهي الإسلام تُحرّم التصوير. ينتج عن هذا، أنّ الفنّ في تونس بدأ مع الاستعمار الفرنسي وهو نتيجة للمنجزات التشكيلية الغربية. (عدد الرسامين في تونس مائتان ( 200 )سنة 1982).

       هنا، لا بدّ من توضيح حول تحريم التصوير. في القرآن لا يوجد تحريم قطعي للصورة إنّما هناك تحذير من استعمالها لغايات وثنيّة، ولهذا السّبب دُمّرت كل الأصنام في الكعبة، لكن الأحاديث النبويّة وهي المصدر الثاني بعد القرآن في حياة المسلمين الدينية تحرّم بشدة تمثيل الكائنات الحية إنسانا أو حيوانا وتكفّر من يفعل ذلك. الفنّانون التشكيليون من معتزلة وغيرهم استفادوا من هذا الاختلاف المرجعي ومارسوا تصوير الأحياء، وفي إيران أقدموا على تصوير الرسول مما يُعتبر قمّة الزندقة. وبهذا فتحوا السبل أما ولادة الرسم العربي الإسلامي.

       في تونس والمغرب العربي الإسلام سني صارم الحدود، فليس من المدهش أن لا نجد تصويرا تشبيهيّا إسلاميا في هذه البلدان كما أن تونس لم تعرف حضارة الكتاب التي تَحقّق خلالها فنُّ المنمنمات في أرض الإسلام وأشعّ.

       هذا ويبدوا أن تاريخ الرسم الشعبي من رسم على الزجاج وغيره يعود إلى القرن XVIII أي زمن الاحتكاك بالغرب المسيحي، فالمؤكد إذن، أنّه لم تكن عندنا في تونس تقاليد تصويريّة على النّمط الغربي قبل القرن الثامن عثر. كما يمكننا أن نؤكّد أنّه كانت في تونس منذ بداية الحضارة تقاليد تشكيلية متعدّدة جلَّتْها اهتزازات التاريخ (الغزو المتكرر حامل الثقافات المختلفة) بالنسبة لنزعة التشكيليين الذين اختاروا طريق التركيب التجريدي وصولا إلى الإبداع الهندسي فانّه يمكن الاعتقاد أن التأثير الخاص للأحاديث المحرِّمة للصورة في شمال افريقيا يفسّر اختيار التجريد وإذا كان هذا الاختيار يعقد الأواصر مع المفهوم العربي الإسلامي التقليديّ في الفنّ التجريدي فإنّه من الحقيقة الاعتراف أن كشفنا لتجريدية فننا جاء خلال تعامل رسامينا مع الرسم الغربي.

صيرورة مفهوم الخطّ

الخط العربي أساس من أهم أسس فن الإسلام التجريدي الروحاني وهو يجتذب حاليا عددا قليلا من الرسامين العرب.

       في نهجي الخصوصي، انطلقتُ من مبدأ تأمّل التراث الحي وتراث المصادر التاريخية والتراث-الفرد-

       الحرف العربي بتراثه وتعقداته فن فريد على المستوى البصري التشكيلي لأنّه يتضمن عالما بلا حدود من التعبير التصويري (عالما ونمطا) وهو عندي لا يعني رسما مقدّسا يمجد أسماء الله والرسول وينسخ الآيات القرآنية إنما أثرا تشكيليا فيه يفرغ الحرف من معناه ويكفّ عن حمل أي خطاب علمي ويأخذ بُنيةً دالّة تشكيليا كمرحلة أولى من انجاز بحث شامل. وأعتبر هذه المرحلة فعلا جوهريا يتعدّى (قضيّة) الهوية لأن الهدف المأمول ليس القطيعة إنّما إحداث حركة ابتعاد إبستمولوجي بالنسبة لمدرسة الآخر حتّى يتواصل التطوّر في حركة موازية له حسب المنطق الطبيعي للتبادل الثقافي وذلك لتوسيع حقل التّكامل.

       في فعل الرسم، وأتكلّم عن الابداع المحض، أُندّد بكلّ أشكال المحاصرة حتى نتجنّب الانطواء المهلك على الذات وننفتح بحرية على الثقافات الأخرى.

وهكذا فإنّ بحثي المستمدّ من القيم الجوهريّة للتراث، لا يعني بالضرورة المحاكاة أو استرجاع القيم الموروثة ومنها الجمود، إنما يعني أن أكون مسؤولا تماما عن نفسي انطلاقا من البنية الحقيقية لثقافتي الأصلية والولوج فيها من جهة الحساسية الشعبيّة واليومي والحياة المعاشة.

       بأكثر دقّة، ما أبحث عنه وراء الخطّ العربي، هو خلق قاعدة مرجعيّة لنا وهكذا يكون انفجار الأشكال الأكاديمية " المستوعبة من الداخل" قادرا على منح الولادة لفنّ آخر يمتلّك ذاته وروحه. فن لا يتجاهل منجزات الآخرين ويثري التّراث الإنساني من جهة ويمكن له الحثّ على التفكير وليس القبول والاستهلاك كما هو الوضع في مجتمعاتنا، وأتكلم هنا عن العالم الثالث من جهة ثانية بحيث يشارك الأثر الفنّي تمام المشاركة في حياة الفرد ببساطة.

       المسرح والسينما والموسيقى والرسم عند بابلا دورها الحقيقي في التواصل الموضوعي بين الداخل والخارج، لأن نفس هذه المجتمعات المقبولة حسب نفس قالب الثّقافة المفروضة من الآخر... تواصل في لا وعيها الجماعي حمل تاريخ تحول إلى أسطورة. وهذه المجتمعات خاضعة لصور مجرّدة تناقض في الغالب محيطها المباشر وسلوكها اليوميّ وذلك بسلطان وسائل الاعلام المعاصرة.

       من هذا المنظور أتكلم عن الابداع الشامل الذي يدفع إلى الوعي الشعبيّ والتفكير والانفجار من الداخل.

       المثال الأكثر حدّة هو احتضار الفن الشعبي وانقراضه لا بسبب موجات المدنيّة العصريّة... إنما بسبب تهميش الصُنّاع الذين يعتبرهم بعض علماء السلالات البشرية نوعا من الظواهر القادمة من الفضاء والتي حكمت الصدفة في معايشتها للسيارة والتلفزة وبالتالي من الواجب تحليلها ودراستها وتنظيمها وفي نفس الوقت وضع نتاجها في المتاحف للتاريخ كمرجع.

       إذن أعتبر أنّ تشكيلييّ العالم الثالث مع اعطائهم بُعدا عالميا لأعمالهم قادرون على التفكير جماعيا لأن الأمر يعني بالضرورة عمل جماعة حول وظيفة التقنيات المعاصرة والمواد واقتباسها ودراسة الأشياء المصنوعة تقليديا الفخار، الخزف (السيراميك) الزجاج، حفر الخشب، نحت الرخام أو الحجر الرخو، النسيج الزربية (السجاد)، الصباغة، النحاسيات، التطريز، النقش، الرسم على الخشب، صناعة الحلي...إلخ

       إذن أعتقد أن هذا يمكن أن يكون أحد الحلول البديلة للوحة المسند وأقترح قراءة ثانية للتراث حتى نخرج من التكرار العقيم فتُعَصّرُ الأفران وتُخلقُ أشكال جديدة وعلامات جديدة وتُفك الرموز بالدراسة العلمية اللائقة ويُعمل على تكريس الانحراف المدروس عن المسار الغربيّ.

 

نجا المهداوي
of 13